لباسها فرعوني تقليدي
متابعة : جمال علم الدين
تحتلّ قرية الفاو موقعاً مميزاً في خريطة المواقع الأثرية بالسعودية، وغالباً ما توصف بأنها أكبر هذه المواقع. من هذه القرية؛ التي تطل على الحدود الشمالية الغربية لصحراء الربع الخالي، خرجت مجموعة كبيرة من القطع الأثرية متعدّدة الأشكال والأنواع، تعكس تعددية مدهشة في الأنماط الفنية المتبعة.
فمنها ما يحمل طابع الأساليب التي سادت في جنوب الجزيرة العربية، ومنها ما يتبع طراز الجمالية الكلاسيكية اليونانية، ومنها ما يعكس أثر حضارة وادي النيل القديمة. يتجلى هذا الأثر المصري في إناء زجاجي مزيّن بحلية تصويرية، كما يتجلّى في قطعتين منمنمتين من الخزف والذهب
عُثر على هذا الإناء في سنة 1990، في المقبرة التي تقع شمال غربي الفاو، وهو من الحجم الصغير. يبلغ طوله 15.5 سنتيمتر، وقطر قاعدته 3 سنتيمترات، وقد وصل مهشّماً، غير أنه حافظ على زينته التصويرية. تتكون هذه الزينة من لوحتين تفصل بينهما 3 شرائط صيغت بالأحمر والأصفر. الصورة العليا أكبر حجماً.
وتُمثّل رجلاً يقف في وضعية جانبية، وفقاً للتقليد المتبع في الفن المصري القديم. بشرة هذا الرجل قاتمة، وهي باللون العسلي الأحمر، ورأسه مصوّر جانبياً في اتجاه الشمال، كما أن رجله اليمنى تتقدم في هذا الاتجاه. نراه يبسط ذراعه اليمنى نحو الأمام، ويحني ذراعه اليسرى نحو الأسفل، رافعاً اليد في اتجاه صدره العاري.
اللباس مصري تقليدي، ويتألف من عترة بيضاء تكسو الرأس، وطوق عريض أصفر يغطي الكتفين، وحزام مشابه يلتف حول مئزر أزرق طويل ينسدل من أعلى الحوض إلى أسفل الساقين. العترة مكلّلة بقرص قمري أزرق كبير، وهي مزينة بخمسة عقود متجانسة، حدّد كلّ منها بسلسلة من النقاط السوداء.
الطوق العريض مزيّن كذلك بعقدين أسودين، والحزام العريض مزيّن بخمسة خطوط متجانسة، والمئزر مرقّط بشبكة من نقاط سوداء. ملامح الوجه جليّة، وتتمثّل في عين واسعة تتكون من غشاء أبيض وبؤبؤ أسود، وأنف بارز ومدبب، وأذن واسعة وعريضة، وثغر صغير يفصل بين شفتيه خط مستقيم قصير.
تحت الذراع اليمنى الممتدّة إلى الأمام، ينسدل وشاح أبيض تزينه شبكة من الخطوط والنقاط السود الموزعة بشكل تراتبي. خلف الساق اليسرى، تظهر طاولة صغيرة الحجم بنيّة اللون، تتألف من قاعدة تستقر فوق عمود مثبّت على قوائم أفقية، ممّا يوحي بأنها طاولة تقدمة. ويعلو هذه الطاولة على ما يبدو أناء بقي منه الجزء الأسفل فحسب.
في المقابل، تُمثل الصورة السفلى طيراً يحمل سمات الصقر، يظهر في وجهة جانبية متطلعاً نحو الجهة اليسرى، رافعاً رأسه نحو الأعلى. الجانب الأعلى من الرأس أزرق، والوجه أصفر، ويحوي عيناً لوزية يتوسّطها بؤبؤ أسود، ومنقار معقوف أحمر، له طرف مدبّب وحاد. جناح الطير أحمر، كذلك قائمتاه، صدره أبيض، وذيله كما وجهه أصفر.
يمثّل الصقر في الحضارة المصرية المعبود الكبير «حورس»؛ سيّد الحياة الدنيا، ورمز الخير والعدل، وهو ابن «أوزيريس»؛ سيد البعث والحساب، ورئيس محكمة الموتى. المعروف أن كل ملك من ملوك مصر كان يحكم بوصفه ممثل «حورس»، ويستعين بهذا المعبود في أعماله كما في حروبه.
يُمثّل الصقر الذي يظهر على الإناء «حورس» على الأرجح، كما توحي العناصر التي تحيط به. في القسم الأعلى من التأليف، يظهر عقدان من الأقطار الصفراء، يتدليان بشكل نصف دائري. بين هذين العقدين يظهر تاج أحمر يستقرّ فوق هامة الصقر، وفي الطرف المقابل، تحت طاولة التقدمة التي تظهر في الصورة العليا، تحضر مساحة مستطيلة يزينها ما تشبه الخطوط الهيروغليفية، وتذكر هذه المساحة بالبطاقة التي تحمل عادة الاسم الملكي في مصر الفرعونية،
كما أشار الباحث محمد بن عائل الذيبي في مقالة علمية موسّعة خاصة بهذا الإناء. تبيّن أن هذا الإناء لا يوجد ما يماثله في الفاو، وهو على الأرجح من نتاج الإسكندرية في نهاية القرن الميلادي الأول، ممّا يعني أنه مصري الطابع فحسب، وليس من عهد الحضارة المصرية الأخير، كما قيل عند اكتشافه، وقبل تحليل مادته الزجاجية بشكل معمّق.
إلى جانب هذا الإناء، تحضر قطعتان منمنمتان من الخزف والذهب من النوع المصري، عُثر عليهما في عام 1982. القطعة الأولى خزفية بيضاوية يحيط بها إطار من الذهب، طولها 1.5 سنتيمتر، وهي على شكل ما تُعرف بـ«حشرة الجُعل»، وتتبع تقليداً راج استخدامه بشكل واسع بوصفه تميمة واقية من الشر. تُزيّن هذا الحجر كتابة منقوشة تحاكي الكتابة الهيروغليفية، وفيها يظهر «حورس» صقراً في وسط التأليف. وتُظهر قراءة هذه الكتابة أنها شكّلية فحسب.
مما يوحي بأن هذه التميمة صُنعت على الطريقة المصرية خارج وادي النيل، ودخلت إلى هذه الناحية من الجزيرة العربية من الخارج، كما دخلت مثيلاتها نواحي عدة من الساحل الخليجي، في الكويت والبحرين وعُمان.
القطعة الثانية طولها 3.8 سنتيمتر، وتمثّل وجهاً دميماً له عينان وحشيتان وحاجبان معقودان، يعلوه تاج كبير مزركش. هذا الوجه معروف في الفن المصري، وهو وجه المعبود «بيس» الذي حظي بشهرة واسعة في عصر المملكة المصرية الحديثة، بين القرنين السادس عشر والحادي عشر قبل الميلاد.
حيث عُرف حارساً للبشر الذي يتعبّدون له، ومدافعاً عنهم في الشدائد والمحن. تخطّت هذه الشهرة حدود مصر، وبلغت الشرق الأدنى، غير أنها لم تبلغ الجزيرة العربية كما يبدو؛ إذ لا نجد خارج الفاو أي قطعة تمثّل «بيس». هذه التميمة فريدة من نوعها في الفاو، مما يشير إلى أنها وصلت من الخارج، مثل القطعة التي يتوسطّها «حورس» صقراً.
أقرأ ايضا : المتحف المصري الكبير يكشف عن الدرج العظيم لأول مرة للزائرين
يتكرّر وجه «بيس» على ظهر هذه التميمة بشكل شبه متطابق. يزين هذه القطعة الخزفية شريط ذهبي مزخرف يلتف حول قاعدته، وشريط ثان يلتف حول أساس التاج الذي يعتمره «بيس». يربط بين هذين الشريطين شريط ثالث يتوسّطه حجر من الياقوت الأخضر. ويشهد هذا الترصيع للأهمية التي حظيت بها هذه التعويذة في ذلك الزمان البعيد، يوم كانت قلادة تحرس صاحبها وتبعد عنه كل شر قريب.