مع انطلاق المملكة العربية السعودية في رحلة طموحة نحو اقتصاد مزدهر، تتمتع الأمة بموقع فريد يسمح لها بالتوفيق بين الحفاظ على تراثها الثقافي الغني وتطوير فرص الأعمال النابضة بالحياة.
وتلتزم المملكة بمبادرات مختلفة، مثل مشاريع السياحة الثقافية وإحياء الحرف اليدوية، والتي لا تحافظ على نسيجها الثقافي المتنوع فحسب، بل وتدفع أيضاً النمو الاقتصادي.
ويسلط هذا النهج الضوء على العلاقة التكافلية بين التقاليد والابتكار، موضحاً كيف يمكن لتكريم التراث الثقافي أن يعزز التنمية المستدامة ويعزز النفوذ العالمي للمملكة العربية السعودية.
وفي إطار برنامج جودة الحياة ضمن رؤية 2030، تشهد الأمة تحولاً سريعاً من خلال التطورات السريعة في القطاع الثقافي وغيره.
ويأتي ذلك في الوقت الذي من المتوقع أن يساهم فيه القطاع الثقافي بأكثر من 47.9 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بحلول عام 2030.
وفي التقرير السنوي لبرنامج جودة الحياة 2023، قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إن المملكة تسعى إلى ترسيخ الشعور العميق بالفخر بالوطن والمساهمة بشكل فعال في التنمية والتقدم العالمي، عبر الأبعاد الاقتصادية والبيئية والثقافية والفكرية.
وكشف التقرير أن وزارة الثقافة استهدفت في عام 2023 توظيف 108 آلاف و10 موظفين في القطاع الثقافي السعودي، لكنها سجلت خلال العام 216 ألفاً و878 موظفاً، بنسبة إنجاز بلغت 201%.
وكانت المملكة تستهدف أيضاً مشاركة تسعة سعوديين في فعاليات ثقافية دولية، إلا أنها شهدت فعلياً 32 مشاركة.
وعندما يتعلق الأمر بعدد أيام الفعاليات الثقافية، فقد كانت المملكة العربية السعودية تستهدف 2093 يوماً في عام 2023، لكنها سجلت 3934 يوماً، مما يعكس نسبة إنجاز بلغت 188 في المائة.
أما بالنسبة لعدد المرافق الثقافية، فقد كانت المملكة تستهدف 41 مرفقاً في عام 2023، لكنها حققت 45.
مساهمة السياحة الثقافية في التنمية الاقتصادية
ولعبت السياحة الثقافية دوراً أساسياً في تنويع اقتصاد المملكة من خلال تعزيز قطاعات الضيافة والتجزئة والخدمات المحلية، فضلاً عن تعزيز مكانة المملكة العربية السعودية العالمية في الدبلوماسية الثقافية.
وقال باتريك سماحة، الشريك في القطاع العام في شركة كيرني الشرق الأوسط وأفريقيا : “إن تنشيط المعالم الثقافية مثل العلا والدرعية والمواقع المدرجة في قائمة اليونسكو عزز بشكل كبير من جاذبية المملكة العربية السعودية الدولية، وأعاد تموضع المملكة كوجهة عالمية ليس فقط للحج ولكن أيضًا لتاريخها الغني وفنونها وتقاليدها”.
وأضاف سماحة أنه “مع وصول عدد السياح الدوليين إلى مصر إلى 30 مليون في عام 2023، فإن هذا التدفق سيعمل على تعزيز الأعمال التجارية المحلية في قطاع الضيافة وتجارة التجزئة والخدمات، مما سيخلق فرص عمل جديدة، خاصة في المناطق التي كانت السياحة فيها متخلفة في السابق”.
وأضاف شريك كيرني أن المشاركة النشطة للمملكة في الدبلوماسية الثقافية أدت إلى علاقات عالمية أقوى وتقدير دولي متزايد لتراثها الغني.
وأضاف أن “هذا ينعكس في الاستثمار الكبير الذي تقوم به الحكومة في المعالم الثقافية، الأمر الذي سيفتح المجال أمام المزيد من الفرص لاستضافة الفعاليات والمنتديات والمؤتمرات الدولية. ولا شك أن المملكة العربية السعودية في طريقها إلى أن تصبح رائدة في مجال السياحة الثقافية”.
ولا شك أن المملكة تعمل على تنويع اقتصادها من خلال جذب الزوار لاستكشاف مناظرها الطبيعية المتنوعة وتراثها الثقافي الغني.
وقال تامر الليثي الشريك الاستشاري في برايس ووترهاوس كوبرز الشرق الأوسط إن المملكة سجلت أعلى نمو بين دول مجموعة العشرين في عام 2024، واكتسبت اعترافًا دوليًا، وعززت التفاهم بين الثقافات، فضلاً عن تعزيز صورة البلاد العالمية كوجهة مفتوحة وترحيبية.
وأضاف أن المشروع “ساهم أيضًا في دعم الحفاظ على المواقع التاريخية وتوفير فرص الدخل للحرفيين المحليين”.
وقال الشريك الاستشاري لشركة PwC الشرق الأوسط إن هذا العمل له “تأثير عميق” على النمو الاقتصادي، وتعزيز سوق العمل، ودعم الشركات المحلية.
وأضاف الليثي أنه مع نمو السياحة الثقافية، يزداد الطلب على المتخصصين في مختلف القطاعات، مثل الضيافة والترفيه والفنون الإبداعية، مما يعزز بدوره فرص العمل والنمو الاقتصادي.
وأوضح أنه نتيجة لهذه الجهود فإن عدد السياح الدوليين والمحليين سيتجاوز 100 مليون سائح في عام 2023، وسينفقون أكثر من 250 مليار ريال (66.6 مليار دولار).
وأضاف أن هذه الأرقام ارتفعت خلال الربع الأول من عام 2024 بنسبة 10% مع زيادة الإنفاق بنحو 17%، وبحلول عام 2030، يهدف قطاع السياحة إلى المساهمة بأكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وبينما تسعى المملكة العربية السعودية إلى أن تصبح مركزاً عالمياً للسياحة الثقافية، فإن بناء شراكات دولية مع الدول الأخرى والمؤسسات الثقافية والمنظمات العالمية أمر بالغ الأهمية لتحقيق النجاح.
تحقيق التوازن بين التراث الثقافي ونمو الأعمال
لعبت الحكومة السعودية دوراً حاسماً في حماية تراث المملكة مع تعزيز القطاع المستدام اقتصادياً من خلال دعم النظام البيئي للتراث، وجذب الاستثمارات الخاصة، وتطوير المواهب المحلية.
وبحسب سماحة، أدركت المملكة العربية السعودية أهمية الحفاظ على تراثها في الوقت الذي تتبنى فيه التبادل الثقافي العالمي، ولهذا السبب يلعب التراث دوراً محورياً في رؤيتها 2030.
وأضاف الشريك في شركة كيرني: “لقد ركزت المبادرات الحكومية الرئيسية بحق على تعزيز التأثير الاجتماعي والاقتصادي للتراث والقطاع الثقافي الأوسع، بهدف إنشاء صناعة مستدامة تجذب الأجيال الشابة. ولتحقيق هذه الغاية، طورت المملكة نظامًا بيئيًا قويًا، يتألف من كيانات حكومية وغير حكومية، مكلفة بإطلاق العنان للإمكانات الاجتماعية والاقتصادية للقطاع وجذب الاستثمار الخاص”.
وأضاف: “على سبيل المثال، أدى إنشاء هيئة التراث التابعة لوزارة الثقافة إلى تمكين المواقع التراثية من أن تصبح محفزات للنشاط الاقتصادي وتقدم برامج تدريبية مختلفة لتنمية المواهب المحلية في مجال التراث.
وأشار سماحة إلى أن المعهد الملكي للفنون التقليدية أنشئ بهدف رعاية المواهب في الحرف المحلية وتوليد فرص العمل للفنانين من خلال حاضنات الأعمال وبرامج التدريب.
وأضاف أن “هذه مجرد مثالين من بين المبادرات المؤثرة العديدة التي تنفذها الحكومة السعودية”.
لا شك أن المملكة أظهرت التزاماً راسخاً بالتراث الثقافي من خلال توظيف استراتيجيات مبتكرة واستشرافية لصيانته والحفاظ عليه للأجيال القادمة. وتعزز هذه الجهود الارتباط الوثيق بين الحفاظ على التراث الثقافي والتنمية الاقتصادية.
وأضاف الليسي “إن هذا واضح في كثير من النواحي. على سبيل المثال، إن إعادة تأهيل وترميم وترويج المواقع التاريخية والمعالم الثقافية يشجع على استكشاف المواقع الثقافية. وفي الوقت نفسه، فإن التركيز على السياحة الثقافية يعزز الهوية الوطنية ويعزز الوحدة والغرض المشترك بين السكان”.
وأكد أن المجتمعات المحلية تتفاعل بشكل فعال مع السياح، ليس فقط لإثراء تجارب الزوار، بل ودعم التنمية المجتمعية أيضاً.
وأضاف الشريك في PwC: “علاوة على ذلك، فإن الاستثمار في ممارسات السياحة المستدامة يضمن الحفاظ على التراث الثقافي للبلاد للأجيال القادمة مع تقليل التأثير البيئي للأنشطة السياحية. وتركز الحكومة السعودية على السياحة المسؤولة وتنفيذ المبادرات الخضراء ودعم الشركات الصديقة للبيئة في قطاع السياحة”.
الحفاظ على التراث الثقافي لجذب الاستثمارات
ويلعب الحفاظ على التراث الثقافي للمملكة العربية السعودية دوراً رئيسياً في جذب الاستثمارات، وتعزيز النمو المستدام، وتعزيز مكانة المملكة العالمية، بما يتماشى مع رؤية 2030.
وقال شاهد خان، الشريك والرئيس العالمي للإعلام والترفيه والرياضة والثقافة في شركة الاستشارات الإدارية آرثر دي ليتل، : “من خلال حماية المواقع التراثية، وخاصة تلك التي اعترفت بها اليونسكو، تعمل المملكة العربية السعودية على تعزيز السياحة وتنويع اقتصادها. كما تعمل الحرف التقليدية والممارسات الثقافية على تحفيز الصناعات الإبداعية، وجذب الاستثمار إلى القطاعات الثقافية والفاخرة”.
وأضاف خان: “على الصعيد العالمي، تعمل هذه الجهود على تعزيز الدبلوماسية الثقافية والقوة الناعمة للمملكة العربية السعودية، وتعزيز نفوذها في الشؤون الدولية. ومن خلال هذه المبادرات، تبني المملكة مستقبلًا مستدامًا ومتنوعًا مع وضع نفسها كقائد ثقافي على الساحة العالمية”.
المبادرات الجارية التي تجمع بشكل فعال بين الحفاظ على التراث الثقافي
وتعمل المملكة العربية السعودية بشكل فعال على دمج حماية تراثها الثقافي مع النمو الاقتصادي من خلال المبادرات المهمة الموضحة في رؤية 2030.
وقال خان إن “العلا تتحول إلى وجهة سياحية عالمية، وتحافظ على المقابر والآثار القديمة مع توليد فرص العمل والإيرادات من خلال السياحة الفاخرة. وعلى نحو مماثل، تخضع الدرعية، مسقط رأس الدولة السعودية التاريخي، لعملية ترميم تجمع بين الحفاظ على التراث والتطوير التجاري والفاخر”.
وأضاف أن “مشروع البحر الأحمر يركز على السياحة البيئية وحماية التراث الطبيعي والثقافي مع خلق فرص العمل وتنويع الاقتصاد”.
وأشار شريك آرثر دي ليتل إلى أن ترميم المنطقة التاريخية المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي في جدة يعزز السياحة من خلال الأسواق التقليدية والمهرجانات الثقافية.
وأضاف خان: “توضح هذه المشاريع كيف تعمل المملكة العربية السعودية على التوفيق بين التقاليد وفرص الأعمال الحديثة لتعزيز النمو المستدام. ويمكن للمنطقة أن تستلهم المزيد من الإلهام من دول مثل اليابان والمغرب، التي نجحت في الترويج لتراثها الثقافي في حين حصدت فوائد اقتصادية كبيرة من السياحة والصناعات الثقافية”.